كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أردف هذا: بما لا ينطلق لسان محصل بذكره: بأن الذي استشهد به أمر فيه بأن يتعمد الحنث، فلنؤمر في الماضي بمثله، وهذا جهل مفرط منه، وإنما أوتي من قبل نظره إلى صورة الكلام، من غير أن عرف مقداره، وليس يبين في أكثر حجاج الشافعي مقاطع الحجاج على ما يعهده الجدليون، وإنما يرمز إلى المقصود رمزا غير بان كلامه على أفهام ضعفة العقول ومنقوصي الأذهان.
ونحن نذكر تقرير قول الشافعي، أنه رحمه اللّه أشار بقوله إلى أن الكفارة في المستقبل ما وجبت إلا باعتبار الخيانة، فإن الكفارة لا تكون جزاء على فعل مباح أو فعل واجب، وإنما هي جزاء على أمر مكروه منهي عنه.
فإذا ثبت ذلك، فمن حلف على ترك فعل مباح أو واجب في المستقبل، ثم فعل، فلا يمكن أن يقال إن الكفارة لأجل ذلك الفعل المباح، الذي ندبه الشرع إلى فعله، وإنما تجب الكفارة لأجل ما اتصفت به اليمين من صفة الحنث، فيقال صارت اليمين كاذبة، بدل ما يقال إن اليمين صادقة، فإذا كانت الكفارة لأجل صفة الحنث لا لأجل الفعل المباح، فوصف الحنث جناية على اليمين، وذلك في الماضي والمستقبل واحد.
فقال إسماعيل في الذي شبه الشافعي به أمره، أن يستأنف بعد اليمين شيئا كان حلف فيه أن لا يفعله، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء قد مضى كاذب فيه، فلم يفهم المقصود، فجعل الفرق بينها الماضي والمستقبل، وقال يجب أن يؤمر بالحنث فيما مضى، كما أمر به في المستقبل، وهذا كلام من لا يحل له أن يتصدر للتصنيف في الدين، فضلا عن أن يرد على الشافعي.
ثم قال: جعل اللّه الكفارة عن اليمين، فمن كفر فلا إثم عليه، فينبغي أن يكون هذا في قول الشافعي لا إثم عليه، فظن أن الكفارة هي التي ترفع الإثم، وقد بينا في مواضع أن التوبة هي الرافعة، وأن الكفارة تجب في قتل العمد والزنا في رمضان والقتل بالمثقل، وإن لم يرفع الوزر قبل التوبة بمجرد الكفارة، فاعلمه، وإنما الكفارة لأجل جبر صفة الحنث الحاصلة في الأيمان، والشافعي رحمه اللّه تعالى لما رأى الكفارة متعلقة بصفة الحنث الراجعة إلى اليمين، لا جرم رأى الكفارة متعلقة باليمين، ورآها سببا فيها فقال: تقديم الكفارة على الحنث جائز، لأن اليمين سبب، فلذلك قال: {فَكَفَّارَتُهُ} وقال: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ}، وقوله: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ}، معناه وذلك نتيجة أيمانكم، ومعقول أيمانكم، والمتعلق بها.. ولا فرق بين أن يقول: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ} وبين أن يقول: «ذلك حكم أيمانكم» إذا كانت الكفارة حكما ولا حكم سواها.
قوله: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ}، معناه ذلك حكم أيمانكم، ولو قال ذلك حكم أيمانكم، عرف منه أن اليمين سبب، وكذلك إذا قال: «ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».
وأبو حنيفة يقول: قوله: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ}، فيه إضمار الحنث ومعناه: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، وهذا غلط منه، فإذا حنث عندهم فليست الكفارة كفارة اليمين، وإنما الكفارة كفارة الحنث في تناول المحرم، فلا تضاف الكفارة إلى اليمين عندهم أصلا، سواء حنث أو لم يحنث.
والذي يقال فيه من الإضمار صحيح، فإنه قال: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. ومعناه فأفطروا فإنه إذا أفطر فعدة من أيام أخر. وهاهنا لو جرى الإضمار صح، فلا يستقيم ما ذكروه، فأما بعد الحنث، فلا تكون الكفارة كفارة اليمين على موجب أصلهم، وإنما يجوز أن يضاف الحكم إلى سببه، أو إلى سبب سببه، مثل القتل مضاف إلى الشرك عندنا، وعندهم هو مضاف لفظا، وإن كان متعلقا بالحرب، لأن الشرك يدعو إليه ويبعث عليه، فكان الشرك مولدا للحرب ومقتضيا له، فحسن إضافة الحكم إلى سبب السبب.
فأما اليمين عندهم، فليست سبب الكفارة ولا سبب السبب، فإن اليمين تضاد الحنث وتمنع منه، والحنث نقض اليمين، فكيف يعقل إضافة الكفارة إلى اليمين، وليست هي سببا ولا سبب السبب.
والإضافة إما أن تكون بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز، فأما الحقيقة، فمثل قولنا زكاة المال، والمجاز مثل قولهم يقتل الكافر لكفره، وإن كان القتل عندهم للقتال، ولكن الكفر يدعو إليه، فلتكن الإضافة فيما نحن فيه جارية على أحد الوجهين، فإذا لم يوجد وجه من الارتباط لا مجازا ولا حقيقة، تطلب الإضافة من كل وجه، وهذا في غاية الوضوح.
قوله تعالى: {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ}، وليس فيه تقدير شيء معلوم.
ورأى الشافعي أن لكل مسكين مدا من طعام.
ورأى أبو حنيفة مدين، وذلك ملتقى من التوقيف المأثور عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وليس الشروع فيه من معاني القرآن.
واختلف علماء السلف في التغذية والتعشية، وكذلك اختلف فيه الشافعي وأبو حنيفة، وظاهر قوله تعالى، فإطعام عشرة مساكين، يدل على جواز التغذية والتّعشية على ما قاله أبو حنيفة، إلا أن الشافعي يقول لما قال فإطعام، جعل المال طعمة، لا أنه جعل الإطعام الذي يتعقبه التطعم، ولذلك جاز التمليك وليس فيه فعل الإطعام، وإنما المراد به جعل المال طعمة لهم، وقربة بقوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ومعناه أو مقدار كسوتهم، وفي الكسوة التمليك شرط، وكذلك في الطعام، وتمامه مستقصى في كتب الفقه.
وفي قوله: {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ}، دلالة على أنه لو صرف إلى واحد جميع الطعام لا يجوز، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة، والسبب في ذلك أن منهم من يراعي عند تعدد الفعل ظاهر التوقيف فيقول:
إذا دفع إليه أولا، فبعد ذلك لو منعناه كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض، فإن اسم لمسكين يعمه مع غيره، فأما إذا دفع إليه دفعة واحدة بطل معنى العدد، فكأنهم يقولون إذا تعدد الفعل، حسن أن يقال في الفعل الثاني، لا يمنع من الذي دفعه إليه أولا، فإن اسم المسكين يناله، فهذا مأخذ قوم منهم.
واعتمد آخرون في إسقاط العدد، على إقامة تعدد الجوعة بتعدد الأيام مقام أعداد المساكين، والأمران باطلان، فإن فيهما طرح العدد، وذلك لا وجه له، والذي قالوه من أنكم منعتموه مع اشتمال اسم المسكين عليه، فلم يمنعه إلا لاعتبار العدد، فإن العدد منصوص عليه فلا سبيل إلى طرحه، والذي ذكروه من إقامة عدد الأيام مقام عدد المساكين، فتحكم ذكرنا في كتب الفقه فساده.
واحتج أصحاب الشافعي في منع القيم في الكفارات، بأن اللّه عز وجل ذكر الطعام والكسوة والتحرير، فلو جازت القيمة، كان على تقدير أن المقصود منه حصول هذا القدر من المال للمساكين، ولو كان المقدار مقصودا لما خير بين الإطعام والكسوة والتحرير، مع تفاوت قيمها في الغالب من الأحوال، وهو مثل احتجاج بعض أصحابنا في منع القيم، بإيجاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الحيوان شاتين أو عشرين درهما مع التفاوت غالبا، وإيجاب الصاع من التمر والزبيب والبر والشعير مع تفاوت قيمتها غالبا، فهذا أقوى الحجج في إبطال القيمة.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية، فالخمر عند كافة العلماء محرمة، غير أن في الناس من يشك في بعض الأحيان، وأنها خمر أم لا.
ولا شك أن موضع الاشتقاق وهو التخمير أو المخامرة. يقتضي كون الأشربة المسكرة خمرا، غير أنالآنثبت اللغات بهذا الجنس من القياس، ورويت أخبار تدل على أن اسم الخمر لازمة لهذه الأشربة التي اختلف العلماء في تحريمها، والمشكل إشكال الاسم على أهل اللغة وأن ذلك لو سمي خمرا لم يشكل.
كيف وعامة أشربة المدينة من التجمل، لأن العنب لا يوجد بالمدينة، وكيف صار ذلك مشكلا؟
وكيف يصور الاختلاف فيه؟
فلعل اشتهار غير العيني بأسامي أخر، لتمييز نوع من نوع، أورث هذا الإشكال، ولم يكن للعنبي اسم آخر وغير العنبي.
فمنه ما يسمى الفضيخ.
ومنه ما يسمى المزر.
ومنه ما يسمى البتع.
ومنه ما يسمى نبيذا، فصار هذا الإسم مشهورا في التعارف.
وظن ظانون أن الاشتهار في بعض الأشربة يمنع من إطلاق اسم الخمر عليه.
ورأى آخرون أن اسم الخمر عام، ثم اختص كل شراب باسم، كالفاكهة اسم عام، ثم يسمى كل واحد باسم خاص، وهم يجيبون عن ذلك ويقولون:
الفاكهة لم توضع مشهورة ببعضها دون بعض، ولكل واحد منها اسم خاص، فأما العنب فليس له اسم مشهور مذكور سوى الخمر، ولكل واحد مما سواه اسم يدعى به، فانصرف المطلق إلى ما اشتهر به، وكان موضوعا لذلك، وهذا في غاية الوضوح.
ويجاب عن هذا أن مزية الاشتهار لكونه مقصودا للشرب غالبا وغيره، إنما يشرب عند إعواز العنب، والأصل الاعتماد على الآبار، مثل قول ابن عباس:
نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر.
وروى حميد الطويل عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة، وأبي بن كعب، وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمر بنا رجل فقال:
إن الخمر قد حرمت، فو اللّه ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا: أهرق ما في إنائك يا أنس، ثم ما عادوا فيها حتى لقوا اللّه، وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ.
فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر.
وعند من يخالفنا شيء من ذلك ليس بمحرم قبل السكر، ولا هو مسمى بالخمر.
وروى ثابت عن أنس، قال: حرمت علينا الخمر يوم حرمت، ولا نجد خمور العنب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر.
وعندهم أنها ليست كالخمر، لا في الحكم ولا في الاسم.
وعن أنس بن مالك، أنه قال: حرمت الخمر وهي من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمر من ذلك فهو خمر.
ذكر في الحديث الآية أنه من التمر والبسر.
وذكر في هذا الحديث أنه من ستة أشياء.
وعندهم أن لا خمر منها. وروى النعمان بن بشير أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال:
ان من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا.
وورد في بعض الأخبار رواه أبو هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
الخمر من هاتين الشجرتين، يعني النخلة والعنب، ومراده غالب ما يشرب من الخمر، وإلا فعندهم المثلث ليس من الخمر، وهو من العنب، ونبيذ التمر ليس بخمر.
وتواترت الأخبار أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قال إسماعيل بن إسحاق: الدليل على أن كل شيء أسكر فهو خمر قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}.
فكان السكر من العنب، مثل السكر من النخل، ثم نسخ ذلك، فإن سورة النحل مكية، إلا آيات في آخرها.
وقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ}.
فذمهما ولم يحرمهما على تأويل قوم، وحرم بعد ذلك السكر عند إرادة الصلاة، فاستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ}، فجاء التحريم في هذه الآية.